بيان بطلان شبهة المجاهرة بالإنكار على ولي الأمر
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ :
لا يخفى على أهل التوحيد والإتباع في هذا العصر أن المملكة العربية السعودية هي معقل أهل السنة ودار الطائفة المنصورة ولهم القوة والعزة فيها وأن غيرهم من أهل الإيمان والدين في غيرها مستضعفون أوعاجزون ,... وهذه الحقيقة يغفل عنها أو يتغافل بعض المنتسبين للعلم من أبنائها ممن لا يرفعون رأسا بالتوحيد ولا يعرفون فضله, حتى إن بعضهم قال إن الدعوة للتوحيد والتحذير من الشرك ليس سببا للتمكين وإنما هو أمر متعلق بالآخرة , قال الإمام محمد بن عبدالوهاب عليه رحمة الله في بيان أنواع المخالفين للتوحيد:" ومنهم وهو أشد الأنواع خطراً من عمل بالتوحيد ولم يعرف قدره ولم يبغض من تركه ولم يتبرأء منهم " أ.هـ
فالتوحيد هو رأس الأمر وسبب لصلاح أمر الدنيا والآخرة.
قال تعالى:[ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ] {فاطر:32} , وقال تعالى: [مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ] {النمل:89}, وقال تعالى:[ وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ] {النساء:125}, وقال تعالى:[ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ] {الزمر:17}, عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِىِّ r قَالَ:{ إِنَّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ فِى جُحْرِهَا } متفق عليه , بل إن الساعة لا تقوم إلا إذا ذهب جميع أهل التوحيد , قال r:{ لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لاَ يُقَالَ فِى الأَرْضِ لا إ له إلا الله } رواه أحمد وأصله في الصحيح.
قال ابن القيم رحمه الله:" وتأمل قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم كيف تجد تحته بألطف دلالة وأدقها وأحسنها أنه من اجتنب الشرك جميعه كفرت عنه كبائره وأن نسبة الكبائر إلى الشرك كنسبة الصغائر إلى الكبائر فإذا وقعت الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر تقع مكفرة باجتناب الشرك وتجد الحديث الصحيح كأنه مشتق من هذا المعنى وهو قوله r فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى:{ ابن آدم إنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة } , وقوله:{ إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه } " أ.هـ انظر إعلام الموقعين:(1 / 226)
ولا ريب أن الغفلة عن هذا الأمر العظيم يوقع المرء بما وقع فيه الفلاسفة الملاحدة من تقديم العقل على النقل والذي يترتب عليه مفارقة الجماعة وإضلال الناس بإحداث مفاهيم مبتدعة في الدين , قال الشاطبي رحمه الله:" وأما القسم الثاني وهي: يعرض فيه أن يعتقد في صاحبه أو يعتقد هو في نفسه أنه من أهل الاجتهاد وأن قوله معتد به، وتكون مخالفته تارة في جزئي وهو أخف، وتارة في كلي من كليات الشريعة وأصولها العامة، كانت من أصول الاعتقادات أو الأعمال؛ فتراه آخذًا ببعض جزئياتها في هدم كلياتها حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادئ رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا راجع رجوع الافتقار إليها –النصوص-، ولا مسلم لما روي عنهم- أي الصحابة- في فهمها، ولا راجع إلى الله ورسوله في أمرها كما قال:[ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ] الآية {النساء: 59}.
ويكون الحامل على ذلك بعض الأهواء الكامنة في النفوس، الحاملة على ترك الاهتداء بالدليل الواضح واطراح النصفة والاعتراف بالعجز فيما لم يصل إليه علم الناظر ويعين على هذا الجهل بمقاصد الشريعة وتوهم بلوغ درجة الاجتهاد باستعجال نتيجة الطلب، فإن العاقل قلما يخاطر بنفسه في اقتحام المهالك مع العلم بأنه مخاطر.
وأصل هذا القسم مذكور في قوله تعالى:[ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ] الآية {آل عمران: 7} .
وفى الصحيح أن النبي r قرأ هذه الآية، ثم قال:{ فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم }.
والتشابه في القرآن لا يختص بما نص عليه العلماء من الأمور الإلهية ، ولا العبارات المجملة ولا ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ، ولا غير ذلك مما يذكرون، بل هو من جملة ما يدخل تحت مقتضى الآية؛ إذ لا دليل على الحصر، وإنما يذكرون من ذلك ما يذكرون على عادتهم في القصد إلى مجرد التمثيل ببعض الأمثلة الداخلة تحت النصوص الشرعية، فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في أكثرها مقرر واضح في معظمها، ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد، فذلك من المعدود في المتشابهات التى يتقى اتباعها؛ لأن اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة " أ.هـ انظر الموافقات:(5 / 142)
ومن إتباع المتشابهات لإغراض سياسية وأفكار مستوردة تقرير بعض المنتسبين للدعوة أنه يجوز الإنكار على ولي الأمر خادم الحرمين ومن ولاه وفقه الله لكل خير علنا والتشهير به إذا وقعت المعاصي , مما يعني منابذته والإيحاء للعامة أنه لا يحكم بشرع الله لإغراء الغوغاء على ترك السمع والطاعة التي فرضها الله عليهم في كتابه قال تعالى:[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ] {النساء:59}, و تواترت الأحاديث بالتحذير من معصية الإمام , قال الشوكاني رحمه الله:" وقد قدمنا في أول كتاب السير هذا أنه لا يجوز الخروج على الأئمة وإن بغوا في الظلم أي مبلغ ما أقاموا الصلاة ولم يظهر منهم الكفر البواح والأحاديث الواردة في هذا المعنى متواترة ولكن على المأموم أن يطيع الإمام في طاعة الله ويعصيه في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " أ.هـ انظر السيل الجرار:(1 / 965)
وقال شيخ الإسلام:" وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم من ولى عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا عن طاعة وهذا نهي عن الخروج عن السلطان وإن عصى وتقدم حديث عبادة :(( بايعنا رسول الله r على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله )) , قال:{ إلا إن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان } , وفي رواية:(( وأن نقول أو نقوم بالحق حيث ما كنا لا نخاف في الله لومة لائم )) فهذا أمر بالطاعة مع استئثار ولي الأمر وذلك ظلم منه ونهى عن منازعة الأمر أهله وذلك نهي عن الخروج عليه لأن أهله هم أولو الأمر الذين أمر بطاعتهم وهم الذين لهم سلطان يأمرون به " أ.هـ انظر منهاج السنة النبوية:(3 / 233).
وإليك بيان بطلان شبهة جواز الإنكار على ولي الأمر علنا :
قال تعالى:[ لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ] {النساء:114 } , أي: كثير من تناجي الناس وهو في اللغة سر بين اثنين , ونظيرها قوله تعالى:[ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً ] {يوسف:80 } , وخَلَصُوا نَجِيًّا أي تفردوا عن سائر الناس يتناجون , وقال الشنقيطي رحمه الله:" وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي قَوْلِهِ:[إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ ] ، يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :[وَالْعَصْرِ *إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] " أ.هـ انظر أضواء البيان:(1 / 307) , فالآية تدل على ما تقرر في السنة والآثار وأقوال أهل العلم أن النصيحة الشرعية للمعينين تكون سرا وخالصة لله وأن من يفعل ذلك يؤتيه الله أجرا عظيما.
وباتفاق أهل العلم أن أعظم الناس دخولا في الآية هو الإمام الأعظم.
وقال أبن أبي عاصم في كتاب السنة:" باب كيف نصيحة الرعية للولاة " عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ قَالَ جُبَيْرُ بْنُ نُفَيْرٍ قَالَ عِيَاضُ بْنُ غَنْمٍ لِهِشَامِ بْنِ حَكِيمٍ أَوَ لَمْ تَسْمَعْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي سُلْطَانٍ فِي أَمْرٍ فَلا يُبْدِهِ عَلانِيَةً وَلَكِنْ لِيَأْخُذْ بِيَدِهِ فَيَخْلُوا بِهِ فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِلا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ " أ.هـ انظر السنة لابن أبي عاصم:(2 / 521) , وهو حديث صحيح ومندرج تحت آية النساء وصححه الشيخ ناصر رحمه الله , وعليه جرى عمل الصحابة كما سيأتي.
قال الشوكاني:" ولكنه ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد بل كما ورد في الحديث أنه يأخذ بيده ويخلو به ويبذل له النصيحة ولا يذل سلطان الله " أ.هـ انظر السيل الجرار:(1 / 965)
وقوله عليه رحمة الله:" ولا يذل سطان الله " يشير الى أن المصالح والمقاصد الشرعية لا تحصل الا بعظمة الولاة في نفوس الناس.
قال الشاطبي رحمه الله:" وكان الناس في زمن الصحابة y معظم تعظيمهم انما هو بالدين وسبق الهجرة.
ثم اختل النظام وذهب ذلك القرن وحدث قرن آخر لا يعظمون إلا بالصور فتعين تفخيم الصور حتى تحصل المصالح.
وقد كان عمر بن الخطاب t يأكل خبز الشعير والملح ويفرض لعامله نصف شاة كل يوم لعلمه بأن الحالة التي هو عليها لو عملها غيره لهان في نفوس الناس ولم يحترموه وتجاسروا عليه بالمخالفة فاحتاج إلى ان يضع غيره في صورة أخرى تحفظ النظام.
ولذلك لما قدم الشام وجد معاوية بن أبي سفيان قد اتخذ الحجاب واتخذ المراكب النفيسة والثياب الهائلة العلية وسلك ما سلكه الملوك فسأله عن ذلك فقال: انا بأرض نحن فيها محتاجون لهذا.
فقال له: لا آمرك ولا انهاك
ومعناه انت اعلم بحالك هل انت محتاج اليه
فدل ذلك من عمر وغيره على ان احوال ألائمه وولاة الامور تختلف باختلاف الامصار والقرون والأحوال " أ.هـ انظر الاعتصام:(1 / 189).
ولعل ما ذكره الشاطبي رحمه الله , هو السر في قول سليمان u :[قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ] {ص:35} .
ومما يستفاد من آية النساء أنه كان من هديه r أنه لا يصرح بأسماء من وقعوا في المنكر بل يقول مابال أقوام , ثبت ذلك عنه في الصحيحين في حوادث متعددة.
وقال تعالى:[ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً ] {الإسراء:53}
فقوله:[ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ] , يقال: نزغ بينهم أفسد وأغرى ووسوس أي : يفسد ويهيج الشر بينهم , ومن المعلوم قطعا أن الإنكار العلني على ولي الأمر ليس من السبيل القصد بل يزيد الشر ويفضي الأمر إلى المراء فهو من الطرق الجائرة التي قال الله فيها:[ وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ]{النحل:9 } , وقال تعالى لموسى وهارون عليهما السلام:[ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ] {طه:47 }, فلابد أن يكون أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر بين يديه مشافهة وأن يتلطف معه لأن مقصود الناصح هو الإصلاح كما قال تعالى:[ فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ] {طه:44 } , وقال تعالى:[ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ]{هود:88} .
وقال ابن القيم رحمه الله:" وتأمل حسن سياق هذه الجمل وترتيب هذا الخطاب ولطف هذا القول اللين الذي سلب القلوب حسنه وحلاوته مع جلالته وعظمته كيف ابتدأ الخطاب بقوله إنا رسول ربك وفي ضمن ذلك إنا لم نأتك لننازعك ملكك ولا لنشركك فيه بل نحن عبدان مأموران مرسلان من ربك إليك وفي إضافة اسم الرب إليه هنا دون إضافته إليهما استدعاء لسمعه وطاعته وقبوله كما يقول الرسول للرجل من عند مولاه أنا رسول مولاك إليك وأستاذك وإن كان أستاذهما معا ولكن ينبهه بإضافته إليه على السمع والطاعة " أ.هـ انظر بدائع الفوائد:(2 / 396).
وقال ايضا رحمه الله:" ولهذا أمر الله تعالى أكرم خلقه عليه بمخاطبة رئيس القبط بالخطاب اللين فمخاطبة الرؤساء بالقول اللين أمر مطلوب شرعا وعقلا وعرفا ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه وهكذا كان النبي يخاطب رؤساء العشائر والقبائل وتأمل امتثال موسى لما أمر به كيف قال لفرعون هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى فأخرج الكلام معه مخرج السؤال والعرض لا مخرج الأمر وقال إلى أن تزكى ولم يقل إلى أن أزكيك فنسب الفعل إليه هو وذكر لفظ التزكي دون غيره لما فيه من البركة والخير والنماء ثم قال وأهديك إلى ربك أكون كالدليل بين يديك الذي يسير أمامك وقال الى ربك استدعاء لأيمانه بربه الذي خلقه ورزقه ورباه بنعمه صغيرا ويافعا وكبيرا " أ.هـ انظر بدائع الفوائد:(3 / 652)
وروى البخاري عنابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال:(( قدم عيينة بن حصن بن حذيفة ، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس ، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته ، كهولا كانوا ، أو شبانا ، فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي ، هل لك وجه عند هذا الأمير ، فاستأذن لي عليه ، قال : سأستأذن لك عليه ، قال ابن عباس : فاستأذن الحر لعيينة ، فأذن له عمر ، فلما دخل عليه قال : هي يا ابن الخطاب ، فوالله ، ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم بيننا بالعدل ، فغضب عمر ، حتى هم أن يوقع به ، فقال له الحر : يا أمير المؤمنين ، إن الله تعالى قال لنبيه r:[خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ] {الأعراف:199} , وإن هذا من الجاهلين ، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقافا عند كتاب الله ))
وقال تعالى:[ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ]{النساء:83 }, بوب البخاري باب: ما ذكر النبي r وحض على اتفاق أهل العلم وروى عن ابن عباس ، رضي الله عنهما قال:(( كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف فلما كان آخر حجة حجها عمر فقال عبد الرحمن بمنى لو شهدت أمير المؤمنين أتاه رجل قال إن فلانا يقول لو مات أمير المؤمنين لبايعنا فلانا فقال عمر لأقومن العشية فأحذر هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغصبوهم قلت : لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس يغلبون على مجلسك فأخاف أن لا ينزلوها على وجهها فيطير بها كل مطير فأمهل حتى تقدم المدينة دار الهجرة ودار السنة فتخلص بأصحاب رسول الله r من المهاجرين والأنصار فيحفظوا مقالتك وينزلوها على وجهها فقال والله لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة قال ابن عباس فقدمنا المدينة فقال: إن الله بعث محمدا r بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل آية الرجم )) , ففي هذا دليل أن هدي السلف الصالح هو إبعاد العامة عن الدخول فيما هو من خصائص أهل الحل والعقد , ودلت الآية أنه من سبيل الشيطان ولهذا قال r:[ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِى جَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَلَكِنْ فِى التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ ] رواه مسلم.
وروى الشيخان عن أبي وائل قال:(( قيل لأسامة لو أتيت فلانا فكلمته قال إنكم لترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم إني أكلمه في السر دون أن أفتح بابا لا أكون أول من فتحه ، ولا أقول لرجل أن كان علي أميرا إنه خير الناس بعد شيء سمعته من رسول الله r قالوا وما سمعته يقول : قال: سمعته يقول{ يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار برحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهى ، عن المنكر قال : كنت آمركم بالمعروف ، ولا آتيه وأنهاكم ، عن المنكر وآتيه } )).
قال العيني في عمدة القاري:(23 / 33):" قوله:(( إني أكلمه سرا )) أي: في السر دون أن أفتح باب من أبواب الفتن حاصله أكلمه طلبا للمصلحة لا تهييجا للفتنة لأن المجاهرة على الأمراء بالإنكار يكون فيه نوع القيام عليهم لأن فيه تشنيعا عليهم يؤدي إلى افتراق الكلمة وتشتيت الجماعة.
قوله:(( لا أكون أول من فتحه )) أي: أول من فتح باب من أبواب الفتنة " أ.هـ
فهذا صريح أنه لم يكن من منهاجهم الإنكار على الأمراء علنا وأنه أمر محدث.
وروى الشيخان من حديث سمرة الطويل:{ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي : انْطَلِقْ وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا }- وفيـه -:{ وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَمِنْخَرُهُ إِلَى قَفَاهُ ، ذَاكَ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ }.
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، قَالَ:(( قَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عَبَّاسٍ : آمُرُ أَمِيرِي بِالْمَعْرُوفِ ؟ قَالَ: إِنْ خِفْت أَنْ يَقْتُلَك فَلاَ تُؤَنِّبَ الإِمَامَ ، فَإِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَفِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ )) رواه ابن أبي شيبة - (15 / 74) بإسناد جيد
فإن قيل فقد روى الشيخان عن عبادة:(( وأن لا ننازع الأمر أهله ، وأن نقوم ، أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم )) , فهذا من اتباع المتشابه :
والجواب عنه : ما ذكره أبو عمر بن عبدالبر قال:" وروى معمر عن الزهري عن السائب بن يزيد قال: قال رجل لعمر بن الخطاب ألا أخاف في الله لومة لائم خير لي أم أقبل على أمري ؟ فقال" أما من ولي من أمر المسلمين شيئا فلا يخف في الله لومة لائم ومن كان خلوا فليقبل على نفسه ولينصح لأميره " أ.هـ انظر التمهيد:(21 / 285) رواه معمر في الجامع:( 11/333 ) وإسناده صحيح
وكذا استدلال بعضهم بإنكار أبي سعيد رضي الله عنه لمن قدم الخطبة على الصلاة
فالجواب عنه : أن هذا كان بين يدي الأمير لا من خلفه , ثم إن هذا كان عارضا كما تقدم في كلام الشاطبي:" فإن الشريعة إذا كان فيها أصل مطرد في أكثرها مقرر واضح في معظمها، ثم جاء بعض المواضع فيها مما يقتضي ظاهره مخالفة ما اطرد، فذلك من المعدود في المتشابهات التى يتقى اتباعها؛ لأن اتباعها مفض إلى ظهور معارضة بينها وبين الأصول المقررة والقواعد المطردة " أ.هـ
قال أبو عمر بن عبدالبر:" إن لم يكن يتمكن نصح السلطان فالصبر والدعاء فإنهم كانوا ينهون عن سب الأمراء.
أخبرنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين البغدادي قال حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الحميد قال حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا يحيى ابن يمان قال حدثنا سفيان عن قيس بن وهب عن أنس بن مالك قال:(( كان الأكابر من أصحاب رسول الله r ينهوننا عن سب الأمراء )).
وحدثنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا أبو بكر بن أبي داود قال حدثنا عيسى بن محمد أبو عمير الرملي عن ضمرة عن رجاء بن أبي سلمة عن عبادة بن نسي قال:(( وقف أبو الدرداء على باب معاوية فحجبه لشغل كان فيه فكأن أبا الدرداء وجد في نفسه فقال: من يأت أبواب السلطان قام وقعد ومن يجد بابا مغلقا يجد إلى جنبه بابا رجا فتحا إن سأل أعطي وإن استعاذ أعيذ وإن أول نفاق المرء طعنه على إمامه )).
وحدثنا محمد بن خليفة قال حدثنا محمد بن الحسين قال حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا يحيى بن يمان عن إسرائيل عن أبي إسحاق قال:(( ما سب قوم أميرهم إلا حرموا خيره )) " أ.هـ انظر التمهيد:(21 / 287)
وختاما :
أقول أنه لا ينقضي العجب من تواصي بعض الدعاة على حث أهل تونس ومصر على أن تكون النصيحة لرؤسائهم كتابة أو مشافهة وفي بلاد التوحيد يشرعون الإنكار العلني , قال ابن القيم رحمه الله:" وآية من شربها قلبه - يعني الفتن - , :
أولا : اشتباه المعروف عليه بالمنكر فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا وربما اعتقد المعروف منكرا والمنكر معروفا والسنة بدعة والبدعة سنة والحق باطلا والباطل حقا.
الثاني : تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وانقياده للهوى واتباعه له " أ.هـ انظر إغاثة اللهفان:(1 / 12)
وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين
وكتبه
أبو عبد الرحمن عبدالله بن صالح العبيلان
17/ 1434/5هـ